حين تخترق أعماله، بروحها النادرة، الحواس؛ لتثير الانقلابات في الذهن، قبل أن يستوطن أثرُها الذاكرة، تتنفس أعماق القارئ الحقيقي اطمئنانها وهي تهتف بصمت: (مازال للأدب الأصيل من العافية ما يبقيه على قيد الحياة حتى اليوم).
هكذا هو قلم الأستاذ الفنان والأديب العراقي المبدع (سعدي صالح أحمد)، الذي تترجم سطور أعماله عن شخصيته المنفردة بإنسانية باذخة الإحساس، ومحبته الخارقة؛ للكون والإنسان.
فاز قلمه بنخبة من الجوائز الأدبية. عمل كاتبًا دراميًّا ومخرجًا في العديد من المحطات الإذاعية والقنوات التلفازية العربية، ومع كل هذا، مازال سلوكه لا يعرف وجه الغرور، أو التعالي على المواهب الشابة، والأقلام الجديدة التي لا يبخل على أحدها بسخاء الدعم المخلص، والمعونة الصادقة في ما يستطيع تقديمه.
ولأن قلمي كان من بين أقلام ترعرعت بين يدي إرشاداته التي لم تكن تقدر بثمن؛ اخترت أن أجري معه الحوار التالي؛ لعل المزيد من الأقلام الجديدة تجد بين سطوره ما يضيء لها طريق عالم الفن المكتوب.
* أنا ابن بيئة الحروب والجوع.. والحب.
* لم تنجبني، بل صنعتني؛ لأن الذي أنجبني هو الحب وحده، ثم اختلطت بتركيبتي الحروب والجوع والمعاناة، فصرت كائنًا مليئًا بفصيلة دم جديدة.
* بدايتي كانت مع فن الكاريكاتير، أحببته لقسوته ومقدرته الجبارة على الإضحاك والإبكاء في الوقت ذاته، ثم كانت البداية الثانية في المسرح الجامعي؛ كتبت وأخرجت المسرحيّات، ومثّلت كذلك، ولكنني لم أجد في نفسي ما يدفعني لعشق التمثيل، ومن ثم احترافه، ويمكنني اعتبار تلك المرحلة مرحلة صعلكة في ميدان الأدب والفن؛ لأنك تعمل لإثبات شيء ما، أو تبرهن على أنك موهوب، إلى أن تنتزع الاعتراف ممن هم حولك بعبقريتك، حينها تتغير الأوضاع.
* أولاً؛ لأنها مرحلة العمل دون مقابل مادي، وثانيًا؛ مرحلة تحدٍّ؛ لأن كثيرا من العاملين في المجال لا يحترمون الموهوبين من المحلّقين حول المجال ذاته، ويعتبرونهم من العوالق، أو الهوائم التي يستحيل عليها الوصول إلى المرحلة التي بلغوها هم مهما نزفوا دمًا أو أتوا بما يشبه أكبر المعجزات، فلا بد من العمل الشاق في هذه المرحلة كي نثبت أننا، حقًّا، قادمون، لكوننا أهلاً للمجال وحمل مسؤوليته، وإن كنت أؤكد لك ما يشبه استحالة سماع مثل هذا الاعتراف من أولئك بالذات شفهيًّا؛ بل لابد من انتزاعه انتزاعًا.
* عندما يحاربك شخص، دون اذِّخار جُهدٍ بوسعه؛ لفرش طريق سيرك، حافيًا، على الشوك، ثم يأتي يومًا من أيام نجاحك كي يقول لك كلمة مبروك بعينين تتعمد نظراتهما الهرب من مواجهة عينيك، مع مصافحة سريعة، وكفٍّ يسحبها خطفًا، حينها تتدفق في أعماقنا سعادة لا توصف، بانتزاعنا ذاك الاعتراف المعنوي الصارخ بنجاحنا رغم صمته.
* لا سر في الموضوع، كل ما أحب الوصول إليه هو أن لا يواجه الشباب ما واجهته، أنا، من قبل؛ لكوني أحسُّ بحاجاتهم، ومعاناتهم. أنا أؤمن بأنه لا توجد موهبة شابة وموهبة كبيرة السن، الاختلاف يكمن في توفير الفرصة؛ ولذا فإنني أحاول مساعدة الذين يدخلون، جديدًا، في المجال بتقديم نسخة عن الأدوات التي نحتت بها إنجازاتي السريعة، إضافة إلى وصفة علنية، أو خريطة ملونة، لكيفية نحت الإنجاز بتميّز.
* أنا أرى أن الأديب المغرور أو المتكبر هو أشبه بمخلوق مصاب بهشاشة عظام حادة، يخشى أن يقترب من أحد أو يلمسه أحد؛ خشية أن يتهشَّم، وأعني بذلك أن موهبته هشَِّة إلى الحد الذي يجعله يخشى أن يبتلعه القادم الغامض، رغم أن القادم لا يحمل بداخله ما يتخيَّله السيد الهشُّ.
* يجب، أوَّلا، أن يتذكر أن الأصابع لا تتماثل، وإن كان عددٌ منها قيدَ الشلل، أو التحجُّر، فلابد أن يجد بينها، كذلك، واحدًا أو أكثر بعافية تؤهله لمساعدته، وأعني بذلك أن ليس الكل يتخوفون من الجديد، وإنما منهم من يحب مساعدة المواهب البازغة، وإبرازها. المهم أن يتواصل الشاب، ويقرأ ويكتب، دون أن يسمح للإحباط باستعمار أعماقه أبدًا.
* حبُّ الناس، حبُّ الاطلاع، أُذُنٌ تسمع، ولسان لا ينطق إلا قليلا، ولكن التجربة هي التي تكون فارق إنضاج الروح الأدبية التي تتكلمين عنها، بمعنى أن الأديب لابد أن يكون ابن بيئته؛ فالأديب ابن البيئة الديناميكية والمتحولة، تنضج روحه وأدواته أكثر من الأديب ابن البيئة المستقرة الراكدة.
* كما أن الأديب ابن بيئته، فالأدب، أيضًا، ابن بيئته وزمنه، فالموضوع مشترك في الأدب والفن والإعلام، الكل مصاب بنفس الأعراض المرضية، ومقولة واحدة تحكي واقع حالهم: «كلٌّ يغني على ليلاه». كلٌّ يبحث عن مبتغاه، ولا احد يحترم المشاهد أو القارئ المتأثر.
* لن يتحول أدب الفترة الحالية إلى مرحلة مخلّدة، لأن الرصين وحده ما يبقى، ولا وجود للرصين إلا في الأدب العربي القديم، فلنقل الذي تنتهي حدوده عند بداية التسعينيات من القرن الماضي.
* بالتأكيد، فالصحوة قادمة في كل مجالات حياتنا، وليس الأدب وحسب.
* تحدّثنا، قبل قليل، عن الرصين والهش. ومن هنا يمكننا القول: فليتكلّم الكل، وصاحب الكلام الموزون هو من سيُسمع. فليحاول كلُّ من يحاول النشر على صفحات مواقع الشبكة العنكبوتية الالكترونية (الانترنت)، تلك ظاهرة صحيّة؛ لكن في النهاية، المخلص هو من سيستمر، وصاحب الموهبة الرصينة وحده من سيبلغ هدفه بالوصول، أمّا الزّبَد فلا يدوم طويلا.
* أولا، أقول لهم: قلبي معكم في كل خطوة تخطونها نحو مشوار تحقيق الأهداف، ونصيحتي هي: (الكلمة الصحيحة لبِنة من لبنات المجتمع السليم؛ فلا تبيعوها بالدراهم)، و وفقكم الله.
* دعيني أسأل نفسي، أولا، قبل أن أجيبك: «إذًا.....................................................................»
أخيرًا. بعد دقيقة صمت قصيرة أجاب بثقته المعتادة: سألتها: لم اختارت هذا المجال على صعوبة السير في طريقه؟ كان ردُّها هو: «لأنه هو الذي اختارك، وليس العكس».
346331 | افتتاحيات | رسالة إلى القراء | مخطوطات ووثائق | أدب وشعر | ثقافة وفكر | إصدارات | تاريخ وتراث | ملف العدد | منوعات | شخصيات | تعقيبات | الأخيرة | صفحات قديمة | أخبار الواحة | هيئة التحرير |