ليس يعنينا ههنا «الكلاب» بنجد كثيراً، ففيه من الاختلاف بين القدماء والمعاصرين قدرٌ ليس بالقليل، وما يهمنا هو علاقة الموضع بالبحرين القديمة، التي تصل حدودها إلى حفر الباطن، وما يرد من ذكر «الكلاب» هنا على أنه بنجد، إنما لإيضاح موقعهالبعيد، كلية، عن الحَفَر.
ليس هناك خلاف في أنيوم «الكلاب» الثاني، وقع بنجد، أما «الكلاب» الأول،فهو ما سنراهم يشيرون إليهوإلى يوم «الكلاب» الثاني بقولهم:
(الكلاب: موضع بالدهناء، بين اليمامة والبصرة، كانت فيه وقعتان، إحداهما بين ملوك كندة الإخوة...)[1] .
تحديد القدماء لـ«الكلاب»، قريباً من الحَفَر:
قال البكري: (الكلاب: أدناه وأقصاه مسيرة يوم؛ أعلاه مما يلي اليمن، وأسفله مما يلي العراق)[2] .
وليس هناك داعٍ لمناقشة هذا الرأي، فالمسافة بين اليمن والعراق، تبلغ شهرين، وليس يوماً، وأيُّ وادٍ – و»الكلاب» وادٍ - يمتدّ هذا الامتداد، مجتازاً صحاريَ وجبالاً. على أن أبا عبيدة قال: (الكلاب: وهو ماء بين البصرة والكوفة، وذلك على بضع عشرة ليلة، ومن اليمامة على سبع ليال أو نحوها)[3] .
وقال ياقوت: (الكلاب: ماء بين الكوفة والبصرة... الذي يلي العراق)[4] . كما قال: (جَدود: قريب من حزن بني يربوع، على سمت اليمامة، فيه الماء الذي يقال له: الكلاب.وكانت فيه وقعتان مشهورتان عظيمتان... وكان اليوم الأول منها غَلَبَ عليه يوم جدود لتغلِبَ على بكر).[5]
استنتج الجاسر من الأقوال السابقة في تحقيقه للحازمي أن:
(الاسم يطلق على موضعين، أحدهما: بين الكوفة والبصرة)[6] .
ثم إن الشايع يؤكد هذا بشدة، حين يقول:
(يوم الكلاب الأول الذي وقعت معركته عند ماء الكلاب الواقع بين الكوفة والبصرة، في شمال الجزيرة العربية، لا في وسطها)[7] .
«الكلاب» الأول بنجد، وليس في جهة الحفر:
وعلى الرغم من ذلك، فهناك إجماع على أن مِن:
(مياه ثهلان.. الكلاب والشعرى)[8] .
ويوضح مالك بن الريب موقعه، فيقول:
سرت مندجى ليلٍ فأصبح دونها
مفاوز جُمران الشريف فغُرَّب
تطالع منوادي الكلاب كأنها
وقد أنجدت منه فريدة ربرب[9]
وفيه جاءت كثير من الأشعار المتعلقة بيوم (الكلاب الأول)، والمقصود بيوم (الكلاب الأول)، أو الوقعةالأولى، هو الذي جرى بين قبائل ربيعة (تغلب وبكر) ضد شرحبيل وكندة واليمن.وتأكيد أنه الذي في جهة «ثهلان» قول السفاح التغلبي، وهو مقبل يرتجز، قارناً بين «الكلاب» و«ساجر» الواقع بنجد:
إن الكلاب ماؤنا فخلوه
وساجِراً والله لن تحلوه[10]
أما قول أبي عبيدة السابق: (الكلاب: وهو ماء بين البصرة والكوفة، وذلك على بضع عشرة ليلة، ومن اليمامة على سبع ليال أو نحوها).
فكيف تكون المسافة بهذه الطريقة؟ وكأنهم يعنون «اليمامة»، يريدون: (بين البصرة... على سبع عشرة ليلة)، و(من اليمامة على سبع ليال أو نحوها). فالصورة لم تكن واضحة عند العلماء. وكانت تغلب، في أثناء حروبها مع اليمن، تسكن وسط عالية نجد، ولم تسكن شمال الجزيرة العربية، بل إن تغلب لم تسكن شمال الجزيرة العربية أبداً. ويمكن أن نستدلّ أكثر على ذلك التصحيف، وتداخل المعلومات، من قول ياقوت: (الكُلاب: واد يسلك بين ظهراني ثهلان... أحدهما ماء بين الكوفة والبصرة، وقيل: ماء بين جبلةوشمام على سبع ليال من اليمامة، وفيه كان الكلاب الأول والكلاب الثاني)[11] .
وفي هذا حلّ للمشكلة التي تبدو عويصة، فالذي: (من اليمامة على سبع ليال) هو «الكلاب»، في جهة «شمام»: عرض القويعية، وفيه كانت الوقعتان الأولى. ثم كيف يكون «ماء بين الكوفة والبصرة»، ويكون، أيضاً: (موضع بالدهناء) كما قال ابن دريد؟
وكذلك (الكلاب الثاني)، أو الوقعة الثانية، فهو نفسه الذي يقع ناحية «ثهلان»، وهو الذي وقع بين تميم ومذحج (اليمن).يقول ربيعة بن مقروم:
وأضحت بتَيْمِنَ أجسادهم
يشبهها من رآها هشيما[12]
وقال محرز بن مكعبر الضبي:
ظلت ضباع مُجِيرات يلذن به
وألحموهن منهم أيَّ إلحام[13]
وقال علقمة الفحل:
وقرّت لهم عين بيوم حُذُنَّة
كأنهم تذبيح شاء معتَّر[14]
ويثبت ابن لجأ كون الحرب ضد مذحج، لا كندة، في قوله:
ويوم تيمن نحن الناحرون بها
جبار مذحج والجبار ينتحر[15]
كما يثبته قول ذي الرمة:
وهم يوم أجزاع الكلاب تنازلوا
على جمع من ساقت مراد وحمير
بضرب وطعن بالرماح كأنه
حريق جرى في غابة يتسعر
عشية فرّ الحارثيون بعدما
قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر
وقال أخو جرم ألالاهوادة
ولاوَزَرٌإلا النَّجاء المشمِّر
وعبد يغوث تحجل الطير حوله
وقد حزَّ عرشيه الحسام المذكر[16]
لقد جاء الخطأ في ذكر: «الكلاب»: قرب الحَفَر،من ذكر «جدود» الذي حدده الجاسر: (جدود: يقع شرق الجزيرة العربية على مقربة من العراق، حيث بلاد بكر وتغلب، بعد حزن بني يربوع... بين الحزن والحجرة)[17] . بينما حدده تحديداً دقيقاً غير هذا، في قوله: (جدود: شمال وادي فَلْج في شرق الحزن – حزن بني يربوع)[18] . وهو ما يتناسب مع قول ياقوت السابق: (جَدود: قريب من حزن بني يربوع، على سمت اليمامة).
وفرق كبير بينشمال وادي الحَفَر، شرق الحزن، و»بعد حزن بني يربوع...بين الحزن والحجرة». وتحديده إلى الشمال من الحَفَر، بل قريباً منه في شماليّه غير بعيد، وهو المناسب كذلك للمطاردة التي تمت إثر الغزوة، جاء في النقائض:
(أتى الصريخ بني سعد، فركب قيس بن عاصم في بني سعد، فأدركوه، وهو قائل بَرغام والمَقاد)[19] .
التصحيف في «جدود»، وهو «جُراد» بنجد:
على أن ياقوتاً قال: (جراد: ماء في ديار بني تميم، عند المَرّوت، كانت به وقعة الكلاب الثانية... رملة عريضة: بين البصرة واليمامة، بين حائل والمروت، في ديار تميم)[20] .
وتوضّح المقارنة بين هذا وقوله السابق: (جَدود: قريب من حزن بني يربوع، على سمت اليمامة، فيه الماء الذي يقال له: الكلاب، وكانت فيه وقعتان مشهورتان عظيمتان... وكان اليوم الأول منها غَلَبَ عليه يوم جدود لتغلب على بكر).
إن المقصود هو «جراد:.... عند المَرّوت، على أن هذا يفيدنا كثيراً في بيان موقع «جدود»، إذ هو: (على سمت اليمامة)، أو كما قال عن «جراد»، وهو يقصد «جدود»: (رملة عريضة: بين البصرة واليمامة).
وواضح أن هذا التصحيف هو الذي دفع الجاسر إلى جعل «جدود» هو: («الكلاب» الأول)، كما خلط في تحديد موقع «جراد»، وجعل «الكلاب الثاني» فيه، وها نحن نرى ياقوتاً يقول قبلاً: (جراد: بين حائل والمروت، في ديار تميم). وكلا الموضعين لتميم، حتى عاد الشايع ليقول: (أما قوله: إنه كانت به وقعة الكلاب الثانية، فلا وجه له، ومعروف أن يوم المروت غير يوم الكلاب الثاني)[21] . مع أنه القائل أوّلاً: (يوم الكلاب الأول الذي وقعت معركته عند ماء الكلاب الواقع بين الكوفة والبصرة، في شمال الجزيرة العربية، لا في وسطها).
وواضح، أيضاً، أن ياقوتاً يتحدث عن يوم «جراد»: بين اليمن وربيعة، وهو يوم قديم من أيامهم غير يوم (الكلاب الأول). قال عمارة الكباري:
ويوم جُراد لم ندع لربيعة
وإخوتها أنفا به غير أجدعا[22]
كما وقعت فيه معركة بين تميم واليمن، قال مالك بن حريم، وهو غير (الكلاب الثاني):
وحيَّ تميم إذ لقينا وسعدِها
برمل جراد أهلكوا بذحول[23]
وجاء الخلط، أيضاً، من كون تميم في صفّ كندة واليمن في (الكلاب الأول)، يقول الأخطل:
هلا منعت شُرحبيلاً وقد حدبت
له تميم بجمع غير أخيار
يوم الكلاب وقد سيقت نساؤهم
سوق الجلائب من عون وأبكار[24]
ومعلوم أن تميماً كانت في (الكلاب الثاني) منتصرة، لا مهزومة.
ومن المصادفات أن هذا الاسم له نظير في الجزيرة الفراتية، مع قرينه «حابس»، يقول الأخطل عن أطلاله هناك، حتى إن ياقوتاً يخطىء فيه، فيدرجه على أنه «الكلاب» المشهور»:
فأصبح ما بين الكلاب وحابس
قفاراً يغنيها مع الليل بومها[25]
مع أن الموضعين يأتيان مقترنين في علاقة بشرقي «ثهلان»، كما هو الحال في قول الأخطل نفسه:
ليس يرجون أن يكونوا كقومي
قد بُلُوا يوم حابس والكلاب[26]
وقوله أيضاً:
أنَسِيت قتلى بالكلاب وحابس
وبكيت، ويحك، برقة الروحان[27] ؟
أما «جدود»، الذي يقع قريباً من الحَفر، شماليّه، فهو الذي ذكره الفرزدق في قوله:
ونحن منعنا يوم عينين مِنقَراً(*)
ولم نَننْبُ في يومي جَدودٍ عن الأصل[28]
وقوله:
فاسأل غداة جَدود أيُّ فوارس
منعوا النساء لعُوذِهِنَّ جُؤار[29]
وقوله:
أتنسى بنو سعد جدود التي بها
خذلتم بني سعد على شرّ مَخذَل[30] ؟
وقوله أيضاً:
هلا - غداة حبستم أعياركم
بجدود والخيلان في إعصار[31]
فهم الجاسر من خبر غزو الحوفزان بن شَرِيك الشيباني الوارد سابقاً:
(أتى الصريخ بني سعد، فركب قيس بن عاصم في بني سعد، فأدركوه، وهو قائل بَرغام والمَقاد»، أن: «بني بكر ساروا من بلادهم بنواحي الكوفة لغزو بني تميم)[32] .
وهذا غير صحيح إطلاقاً، فشيبان كانت تغزو تميماً من الجزيرة الفراتية بالعراق، وتميم، يربوع، كانت تغزو شيبان في عقر ديارها هناك. ولم تأت شيبان إلى أطراف شمال الجزيرة العربية إلا مع الفتح الإسلامي، وكانت بكر عامة قد زحفت عنها مع بدايات الإسلام.
لا "كلاب" في شمال الجزيرة العربية، وهناك "جدود" فقط. و"الكلابان" كلاهما بنجد، وكانت مجادلات الشايع، مجاراةً للجاسر، وتخطئةً لابن جنيدل في غير موقعها، والصواب ما رآه ابن جنيدل، على أقل تقدير من كونهما كليهما بنجد[33] . على ألا نلتفت إلى قول ياقوت السابق:
(جَدود: قريب من حزن بني يربوع، على سمت اليمامة، فيه الماء الذي يقال له:
"الكلاب").
وهو ما دعا الشايع إلى القول:
(ولو لم يسمَّ يوم جدود بهذا الاسم لكان اسمه يوم الكلاب أيضاً، ولأصبح لدينا ثلاثة أيام كلها تُدعى يوم الكلاب؛ اثنان منها سميت بالكلاب الواقع بين البصرة والكوفة)[34] .
وما من "كلاب: بين الكوفة والبصرة"، على الرغم من أن القدماء في اضطرابهم جعلوه أيضاً: (الكلاب: موضع بالدهناء، بين اليمامة والبصرة)، وهنا سواد العراق، الذي لا تبلغه الدهناء، و"جدود": بالحزن، وليس في "الدهناء".
381634 | افتتاحيات | رسالة إلى القراء | مخطوطات ووثائق | أدب وشعر | ثقافة وفكر | إصدارات | تاريخ وتراث | ملف العدد | منوعات | شخصيات | تعقيبات | الأخيرة | صفحات قديمة | أخبار الواحة | هيئة التحرير |